• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الاقتصاد العالمي على خُطى نظرية التطوّر

حامد عبدالحسين الجبوري

الاقتصاد العالمي على خُطى نظرية التطوّر

يعاني الاقتصاد العالمي من غياب الاستقرار وشيوع الفوضى وذلك بحكم إدارته عبر المنظمات الدولية بناءاً على نظرية التطوّر القائمة على الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح (للأقوى)، بعيداً عن التعاون والتضامن والتكافل.

نظرية التطوّر في مثالين

مثالان يوضحان آلية الصراع من أجل البقاء والبقاء للأقوى وكيف تم اعتمادها لاحقاً في الاقتصاد العالمي.

المثال الأوّل، إنّ أطوال أعناق سلف الزرافات متمايزة فبعضها أطول من بعض نسبياً. فلو افترضنا تواجدها في بيئة فيها غذاء لذلك السلف على ارتفاع أنسب لذوات الأعناق الطويلة منه لذوات الأعناق القصيرة، فستحصل عملية انتخاب من الطبيعة للزرافات الأنسب للحياة في تلك البيئة، فتموت الزرافات ذات الرقبة القصيرة جوعاً أو لا تتمكن من التكاثر والتزاوج لقلة الغذاء أو لا تتمكن من تغذية صغارها، وهكذا تقل صغارها وربّما تنقرض فتبقى الزرافات ذات الرقبة الطويلة وتنمو وتتكاثر بصورة جيِّدة، وتورث هذه الصفات الجينية لمواليدها، وتنقى الخرائط الجينية للزرافات من صفة قصر الرقبة جيلاً بعد جيل.

المثال الثاني، الحيوانات المفترسة، مثلاً الذئاب تتمايز كغيرها من الكائنات الحيّة في كلّ شيء، فلو وجدت الذئاب في بيئة، الفرائس فيها سريعة، فإنّ الذئاب قصيرة الأقدام والبطيئة السرعة تهلك جوعاً في هذه البيئة وبالتالي فلن تورث صفاتها لجيل يخلفها، ومع مرور الزمن ستتشكل ذئاب بالانتخاب الطبيعي ذات أقدام طويلة وسريعة في تلك البيئة[1].

مَن يسيطر على الاقتصاد العالمي؟

في أعقاب الحرب العالمية الثانية التي انتصر فيها دول الحلفاء على دول المحور، والتي نجم عنها تدهور الوضع الاقتصادي العالمي خصوصاً في صفوف دول المحور وبالخصوص ألمانيا واليابان، ولتلافي الشروع في سيطرة الاتحاد السوفيتي واستقطاب دول التدهور وتوسيع هيمنته عالمياً، لجأت الولايات المتحدة الأمريكية إلى البدء في مشروعها وهيمنتها على العالم اقتصادياً وذلك من خلال دعوة 44 دولة لحضور اتفاقية بريتون وودز عام 1944، بهدف وضع إطار للتعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي من شأنه أن يُرسي اقتصاداً عالمياً أكثر استقراراً وازدهاراً.

ما تمخض عن تلك الاتفاقية ولادة صندوق النقد الدولي، الذي يركّز على قضايا الاقتصاد الكلّي، والبنك الدولي، الذي يركّز على التنمية الاقتصادية طويلة الأجل والحدّ من الفقر، وأنّ هدفهما المشترك هو رفع مستويات المعيشة في بلدانهما الأعضاء، وتحقيق استقرار الاقتصاد العالمي وازدهاره أخيراً.

حيث بلغ أعضاء كلّ منهما 189 بلداً في الوقت الذي بلغ فيه عدد الأعضاء في الأُمم المتحدة 193 بلد، وإذا أخذنا البلدان غير الأعضاء أو غير المعترف بها بعين الاعتبار، فإنّ عدد بلدان العالم لا يتجاوز 210 بلداً، وهذا ما يعني أنّ المؤسّستين تسيطران على 92% من اقتصادات البلدان المكونة للاقتصاد العالمي، وتتحكم بها وفقاً لمصالحها بناءاً على نظرية التطوّر و«البقاء للأغنى»[2]، وهذا سيتم إثباته بالفقرات اللاحقة.

الاقتصاد العالمي على خُطى نظرية التطوّر

يتّضح مدى سير الاقتصاد العالمي على خُطى نظرية التطوّر والبقاء للأغنى من خلال نقطتين الأُولى تصميمية والثانية تأكيدية هما:

الأُولى: تصميم آلية اتّخاذ القرار في المؤسّستين

كيف يتّخذ القرار في تلك المؤسّستين؟ بالقوّة الاقتصادية أم بالانتخاب الديمقراطي وفقاً لمصالح الأغلبية؟

تم تصميم آلية اتّخاذ القرار في هاتين المؤسّستين بالطريقتين معاً بالقوّة الاقتصادية والانتخاب الديمقراطي المتحيز، وذلك من خلال ربط الصوت الانتخابي بحصة المساهمة، فالبلد المساهم بحجم أكبر في رأس المال المؤسّستين يكون لصوته الانتخابي وزن أكبر في هاتين المؤسّستين، بمعنى آخر هناك علاقة طردية بين حجم المساهمة وقوّة التصويت، وهذا ما يعني أنّ مَن يمتلك أكثر يتحكم أكثر، والنتيجة فقدان الاستقلال الاقتصادي للبلدان الأعضاء ويترتّب عليه تبعية سياسية من الاقتصادات الضعيفة للبلدان ذات الاقتصادات الأقوى.

وبما أنّ الولايات المتحدة الأمريكية هي صاحبت المبادرة في الدعوة لاتفاقية بريتون وودز لتحقيق أهدافها سيكون لها الدور المحوري في الاتفاقية وما يتمخض عنها، وما يؤكّد هذا المؤرخ لصندوق النقد الدولي جيمس بوتون حيث يذكر «كانت رغبة حكومة الولايات المتحدة في استضافة الاجتماع، وتولي زمام القيادة في تصميم صندوق النقد الدولي، والتزامها بأن تكون المقرض الرئيسي، وتوفير احتياجات البلدان الأُخرى»[3].

 فكانت الولايات المتحدة الأمريكية بالفعل المساهم الأكبر في حصص المساهمة في المؤسّستين، إذ تشكّل ما نسبته 17.6% من إجمالي الحصص، التي كانت السبب وراء احتلالها ما نسبته 16.52% مقارنة بالدول الأعضاء من حيث القوّة التصويتية في الصندوق.

وكذا الحال بالنسبة للبنك الدولي حيث تشكّل الولايات المتحدة ما نسبته 16.89% في حصص المساهمة، هذه النسبة الكبيرة جعلتها تحتل ثقل كبير بنسبة 15.98% في البنك الدولي.

وبهذه النسب فالولايات المتحدة هي صاحبة حصة الأسد في حصص المساهمة في المؤسّستين، وبالتالي سيكون أي قرار يتّخذ لا يمكن أن يتحقّق إلّا بموافقة الولايات المتحدة كون أصواتها ذات وزن أكبر انسجاماً مع حجم مساهمتها في الحصص.

 وفي حال أرادات الدول الأعضاء تعديل حصصها في الصندوق لتكون قوّتها التصويتية ذات وزن يتناسب مع اقتصاداتها، فإنّ هذا يتطلّب موافقة أغلبية 85% من الأصوات في الصندوق. وبما أنّ الولايات المتحدة تملك لوحدها 16.52 فإنّ أي قرار لا يمكن أن يُمرر في الصندوق دون موافقتها على القرار، وبالتأكيد إنّ ارتفاع زيادة حصص الدول الأعضاء ومن ثمّ القوّة التصويتية سيقلل من أهميّة الولايات المتحدة فهي لم توافق على قرار يقلّص من أهميّتها، وهذا ما يجسّد نظرية التطوّر بشكل دقيق.

فهاتان المؤسّستان صندوق النقد والبنك الدوليين تشكّلان أبرز مؤسّسات الاقتصاد العالمي كما اتّضح أعلاه، كما لا يمكن لدولة ما الانضمام للمؤسّسة الثانية دون الانضمام للمؤسّسة الأُولى، وهذا ما يدلل على إحكام سيطرة هذه المؤسّسات على الاقتصاد العالمي، وهذا ما اتّضح بشكل أكبر في كيفية اتّخاذ القرار آنفاً.

الثانية: تأكيدية متمثّلة في مدى تحقّق هدف المؤسّستين

 يبدو من خلال الوقائع أنّ الاتفاقية وما تمخض عنه (المؤسّستين) لم يحقّقا ما كان ينبغي تحقيقه، وخير دليل على ذلك هو غياب الاستقرار وشيوع الفوضى عالمياً خصوصاً في السنوات الأخيرة، حيث يزاد الثري ثراء والفقير فقراً، ويمكن القول إنّ أبرز معالم غياب استقرار الاقتصاد العالمي هي الأزمات المتكررة والتفاوت الاقتصادي.

حيث شهد الاقتصاد العالمي العديد من الأزمات وأبرزها أزمة البترول عام 1973 التي كانت نتيجتها ارتفاع أسعار البترول بشكل كبير انعكست على أداء الاقتصاد العالمي. وأزمة جنوب شرق آسيا عام 1997، وأزمة الرهن العقاري عام 2007، وأزمة عام 2014 حينما انخفضت أسعار النفط بشكل كبير، وكلّ أزمة من هذه الأزمات لا يتم التعافي منها بشكل سريع بل يظل الاقتصاد العالمي يعاني منها لمدّة طويلة، وهذا ما يعني غياب استقرار الاقتصاد العالمي.

وبهذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أنّ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقيات الدولية كالاتفاقية الخاصّة بالمناخ والاتفاق النووي وغيرها، وشنّ الحرب التجارية مع الصين وفرض العقوبات الاقتصادية على العديد من دول العالم كالعراق في حقبة التسعينات وروسيا وإيران وتركيا وغيرها، ما هي إلّا دلالة على قوّة وهيمنة الاقتصاد الأمريكي على الاقتصاد العالمي من جانب، وغياب الاستقرار العالمي من جانب آخر.

أمّا بالنسبة للتفاوت الاقتصادي (اللامساواة الدولية) المقصود به انعدام المساواة بين دول العالم والتفاوت الشاسع بين الدول الغنيّة والدول الفقيرة. ويتألف المكوّن الرئيس لعدم المساواة في الدخل العالمي من مجموعتين من الدول تُسمّى «قمم التوأم» هما[4]:

المجموعة الأُولى: تضمّ 13% من سكان العالم وتتلقى 45% من الدخل (تعادل القوّة الشرائية) في العالم، هذه المجموعة تضمّ الولايات المتحدة واليابان وألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا وأستراليا.

المجموعة الثانية: تضمّ 42% من سكان العالم وتتلقى 9% فقط من الدخل العالمي. وهذه المجموعة تضمّ الهند وإندونيسيا والصين.

صفوة القول، إنّ سير الاقتصاد العالمي وفق مبدأ الصراع من أجل البقاء والبقاء للأغنى اقتصادياً، أسهم في غياب استقرار الاقتصاد العالمي كنتيجة لوقوع الأزمات والتفاوت الاقتصادي. ومن أجل تحقيق ذلك الاستقرار لابدّ من التعاون من البقاء والبقاء للجميع وبهذا يتقلّص التفاوت وتنتهي الأزمات.


[1]- أحمد الحسن، وهم الإلحاد، ص٧٩-٨٠.

[2]- غريغوري كلارك، الاقتصاد العالمي، نشأته، وتطوّره، ومستقبله، ص159.

[3]- جيمس بوتون، هل هناك اتفاق بريتون وودز جديد؟، مجلة التمويل والتنمية، مارس 2009، ص45.

[4]- موسوعة ويكيبيديا.

ارسال التعليق

Top